أذكر أني كنت أصر بشدة وبفزع على أن أنام و المصباح مضاء خوفا من الأشياء التي تتحرك في الظلام..وأذكر أيضا أنه كان ينتهي بي الأمر دائما بالنوم في غرفة جدي لأنه كذلك لا يحب النوم في الظلام…مفتاح شنابو يخاف من الظلام من كان ليصدق؟!
أرى عبر الذاكرة مشوارنا الصباحي للمدرسة -لابد أن ذلك كان في سنة 1990 عندما كنت أدرس سنة أولى ابتدائي قبل سنة من وفاته- بسيارة والدي التي يتسرب الهواء البارد من أحد أبوابها..أردد أنا و إخوتي خلف جدي :
” يا خالقي يا رازقي يا ثقتي يا أملي أنت الرجاء أنت النجاة أنت المجيب لمن دعى
بالهاشمي المصطفى وبـ طه مع سبا يس والمزمل والخلفاء الأربعة ابي بكر وعمر عثمان والسيد علي…
اغفر لأمي وأبي ..اغفر لهذا المجمع يا من إليه المرجع”.
………………………………………………………
بشكل تعسفي من قبَلي أقول أن علاقة أي أحد بجده هي استثنائية وذاتية ..علاقة ندية من جانب أنك دائما تذكره كشخص أخذك على محمل الجد..وعلاقة احتواء من جانب آخر لأنه كان دائما الوحيد الذي يستطيع حمايتك من عقاب والدك.
الحب غير المشروط المدافع دائما عنك الذي يرى دائما أن خطأك ليس بتلك الأهمية.. ربما لأن الأجداد عرفوا حقا أن الوقت ضيق جدا وأن لا وقت للزجر والتأديب فلتترك هذه المهمة لوالديك لأن الوقت بالكاد يكفي للأحضان.
وبعد أن يرحل جدك ستدرك أنت أيضا أن الوقت لم يكن كافيا.
………………………………………………………
كتب خلف الصورة: “الحاج مفتاح رامبو الصحراء”
………………………………………………………
لكني عندما كبرت وأدركت القصص عنه عرفت أنه يمثل شخصيتي المفضلة للحياة ..
-هو- طفل يتيم وحيد أمه لم يدرك والده إلا قليلا..منذ ولادته سنة 1919 ..ومنذ أن استطاع أن يحمل شيئا غير وزنه بدأ في العمل-أول عمل له في كسارة أحجار في مدينة المرج يحكي لي أبي أنه سمعه يقول أن ثقل المطرقة كان يسقطه خلفاً، ولم يتوقف عن العمل حتى انكسرت فخده وعمره 70 سنة ..ليرحل بعدها بسنة.
انتقل كثيرا بين بنغازي وغريان وطرابلس سافر كثيرا لإيطاليا التي تعلم لغتها من أهلها في المدرسة…عاصر المجاعات والحرب العالمية -تناول العشاء عدة مرات مع أمه وقنابل المتحاربين تمر من فوقهم في بنغازي…عاصر الشدة والرخاء والشدة …عندما تدرج من تاجر بسيط إلى صاحب تاكسي لمكة أيام الحج…ثم سائق شاحنة ..ثم تاجر قطع غيار تشحن فواتيره من تورينو ثم الزحف على أملاكه ليعود مجددا لسائق شاحنة وقود…ومع كل هذا استطاع أن يبقى بقلب طفل رحيم محب للمرح والمزاح القاسي.
تنقلب به شاحنة الوقود ليلا وهو في طريقه لأحد المحطات التي كان يختار أبعدها حبا في الصحراء..
ليتصل بأبي وقبل أن يخبره بالخبر يصرخ فيه بمرح : “اسمع يا ولد جيب معاك الكميرا ..واخطم علي الجزار -جزار ثليج- في غريان جيب معاك نص سقيطة جدي …لا غر انقلبت بيا الكرهبة ”
أو عندما أذكر الآن استغراب الأقارب قبل الأباعد من أن لعبتنا المفضلة مع جدي هو أن نتبادل خداع بعضنا والاختباء وراء الباب من أجل “خلعة ” الآخر.
لا يمل مبروك الأصيبعي مساعده -وابنه- الحديث عن تلك المرة التي أدار الحاج مفتاح الشاحنة فجأة وعاد أدراجه ..ولا يجيب عن تساؤلات مبروك المستنكرة: عن شن في يا حاج ..شن في..خيرك مولي ؟ ولا يتحصل إلا الإجابة المعتادة “اسكت يا ولد”
وبعد عودة عشرة كيلومتر ..يقف الحاج مفتاح وينزل معاه حكة حليب الزهرة الذي يحبه ..ليسكبه لقطة وصغارها على قارعة الطريق كان قد مر عليهم ..وظل طوال ساعة يلوم نفسه أنه لم يسقهم إياه.
مبروك الأصيبعي الذي يستحيل أن تجلس معه دقيقتين دون أن يقول “حياة الحاج..” ويذكر لك أحد قصصه معه..رحم الله مبروك الأصيبعي ورحم الله جدي.
………………………………………………………
رحل فجرا مثل كل المبكرين في رحيلهم …
لفترة لا أذكرها ظللت أتسلل من البيت لأختبئ في أحد السيارات لأبكي ..لابد أني كنت وقتها استطيع تذكر صوته وهو يقلد صوت القط ليضحكني أو كيف يتحدانا أن نستطيع تقليده في تحريك أذنه مثله…لابد أني كنت اشعر بالفراغ فجأة فأبكي
الأجداد من الأشخاص الذين تريد جدا أن تخبرهم بكل شيئ..وأن تسمع منهم كل شيء..أن تستعذب افتخارهم بك بأبسط الانجازات..
نكبر فيصغر-عادة- من كنا نراهم عظماء ونحن صغار..لكن ذلك لا يحدث مع الأجداد..صغيرا لا تكف عن الحلم أن تنهض غدا لتجده حيا…وحتى بعد الكبر تضبط نفسك تتخيل الأحداث معه..فلا تتخيل نفسك إلا متواضعا أمامه تساعده في النزول من السيارة …أو يستند إليك -وأنت تتعلق به- في مسيره خارجا من صلاة الجمعة..أو أن يختارك لتقود به إلى عيادة ما..
هم من الأناس الذين تعرف بغيابهم – عادة في سن مبكرة- معنى الوحدة التي تورث شهقة .
قبل سنوات قليلة من الآن ..وعندما تذكرت كم كنت أخاف النوم في الظلام ..تذكرت جدي وأنني كنت مثله ..ثم انفجر في ذهني الاكتشاف التي ثبت لي لاحقا بالسؤال..جدي في حقيقة الأمر – مثل الجميع – كان يفضل النوم في الظلام ..هو فقط كان يدعي ذلك من أجلي…
ومثل عطاء كل أصحاب النبل هو لا يعطيك فقط…ولا يعطيك بدون امتنان فقط…بل هو يعطيك ويخفي عليك ..بل يذهب أبعد فيجعل العطاء كأن العطاء كان لمصلحته هو…العيب الوحيد أنه يحرمك من الشعور بالامتنان في حينها.
والآن أستطيع تخيل جدي وهو ينام في النور.
يا را أذيتنا انت وجدك 😁
تو انا شنو وضعي أللي معنديش ذكريات مع أي جد
رحمة الله علة جدي وجدك
رائعة من رائع.
رحم الله نسيبنا الحاج مفتاح أبو غرارة، وحفظ الله الحاج بشير وذريته وزوجه.
جميل كالعادة واكثر ..
رحم الله وطيب ثراه وجعل الجنة مثواه
اللهم لا تحرمه الفردوس الاعلى يا الله وشرفه برؤية وجهك الكريم يارب ❤️
صدق الكلمات يخليك تحس بكل حرف مكتوب ، منقدرش نقول إلا انها رهيبه 💛.
شكرا لأنك كتبتها ولأنك كملتها،اعظم اخ كاتب في العالم ❤️
اللهم اغفر له وارحمه وجازه خير الجزاء. مبدع يا بو غرارة. ربي يعطيك الصحة اسلوب مميز
فكرتني كم بيكيت رعبا من الظلام..في ببت جدي ..لم اكن أرى إلا عقارب الساعة باللون الأخضر الفسفوري.. ولا أنام الا بعد ان اسمع كلمة ” انطمر “
غفر الله له وبارك فيةذريته، جعلكم الله خير خلف لخير سلف
رحم الله جدك وجدي وأبي وسائر المسلمين …. رائعة منك ايها الرائع