الشيخ عيسى المغربي
منذ عشرين سنة آفلة ، كنت أهرع إليه بلوحي الخشبي…إلى غرفته المستقرة في أطراف مزرعتنا …أتعلم منه آيات الذكر الحكيم
أراجع عليه ما مضى ..أو يمليني فاخط على اللوح بأقلام القصب لوحي الجديد مما اقتبس
القلم من الحبر.
أحيانا يقوم ويتركنا نتلوا ونراجع -أنا وإخوتي- … ليقاطعنا وهو عائد ببراد الشاي الأخضر ـ الذي لا أعرف أحدا يعده أفضل منه ـ بالطريقة المغربية المليئة بالنعناع
….وفي يده الأخرى صحن زيت الزيتون…وأرغفة الخبز…كان كل شيء لذيذا.
يجلس في ركن الغرفة وشفتاه لا تمل التمتمة بأصدق الحديث…دائما لا يسكت عن الحديث بكلام البشر الاّ ليستهل كلام خالق البشر
في ختمات لا حصر لها.
يداه تجرحان حبات الزيتون التي جناها من اشجارها…ليغمرها في الماء المملح ..بعد حين…!تحوم ذبابة فيهشها بعصاه المؤلمة..
يسرّحني واخوتي عند شعاعات المغيب …يشيّعنا بابتساماته الهادئة.
…………….
ولده الأكبر اتصل بأبي ليخبره أن الشيخ عيسى انتقل لجوار ربه..يعاني من آثار جلطة من سنوات
لتنتهي حياته المليئة الكفاح والتعب ..
………………….
عاد إلينا الشيخ عيسى قبل عشر سنوات في زيارات رمضانية..يأتي لليبيا ليصلي بالناس ختمة التراويح في بالاشهر في تاجورا..
عندما رأيته بعد غياب عشر سنوات هالني أنه كان قصير القامة ضعيف الجسد…شعرت بالإحراج وهو يعانقني بقوة أب أنني أطول منه…بعض الأشخاص -مثل أبيك- لا تسمح لنفسك أن تكون أطول منهم…أنهم أعظم منك.
يأتي ليستقوي بما يجمع له أهل التراويح من أجر حتى يستقوي على الفقر الأبدي هناك..حيث الفقر متوحش
ولا شيء يكفي لكل شيء
يأتي كل رمضان ويبقى لأشهر وإن صادف موسم الزيتون ..يجمع الزيتون بنفسه..ثم يتفن في تمليحه وتخليله ..بأربعة طرق على الأقل..ليبقيه لنا كله..ثم يعود لبلده التي لا يمل أن يصفها بالأجمل في العالم ..بلد التي تعود عيونه لطفولتها عندما يتحدث عن الجليد الذي يغطي جبالها.
أتى لليبيا في نهاية السبعينات يبحث عن عمل كفلاح الذي كان يتقنه ويحبه…اشتغل عند الشيخ عز الدين الغرياني الذي لاحظ أنه لا يكف عن التلاوة وهو ينتقل بنشاط بين الجدولات ..
وعند السؤال واكتشاف أن الشيخ عيسى كان في المغرب معلم قرآن..استنكر عليه الشيخ عز الدين أن يعمل كفلاح..
فرتب له امتحان مدرس قرآن وبعد النحاج وجهه كمدرس قرآن في الزوايا في تاجورا ثم لعدة سنوات في يفرن
عندما يحكي لنا الشيخ عيسى هذه القصة فأننا نستطعم حلاوة الإمتنان في فمه
أني حزين حزين حزين
حزين لشيخي عن ابنته اللي توفت صغيره بمرض غريب وهو بعيد عنها ورأيت انكساره أمامي وأنا طفل
حزين لحياته المتعبة في التنقل وكدر العيش
حزين لبيته الذي هدمته الحكومة لأنه كان أقرب لبراكة وكان يشوه الحي هو وجيرانه دون إعطاءه ثمن بناء بيت جديد..فبنى بيت بدون أبواب لسنوات
حزين لشيخي الذي مشي على قدمه كثيرا وبعيدا
حزين لموت حلمه في الحج
وحزين لأنه يحمل كل ذلك الحب والخير والنشاط دون أن يقف العالم ليقبل رأسه.
آخر لوح كتبته عليه ..من سورة التوبة ..
بعد مراجعة الكتابة وتصحيح الأخطاء ..يكتب هو آخر اللوح بخطه الجميل
وأولئك هم الفائزون
الله عليك يا محمد
ربي يتقبله من الفائزين الصالحين
وربي كتبلك الأجر لبرك ووفائك
… إنهم أعظم منك 🙁
هم الخالدون حقا، غفر الله له وتقبله في عليين.
الله يرحم الشيخ عيسى و يغفرله.
تدوينة قمة في الجمال يا محمد. جدا جميلة
حزنت عليه …
لا أزلت أتذكر انه كان في كل عيد فطر أو أضحى يكلف نفسه باتصال دولي لوالدي ويبلغ السلام لكل الاقارب.
حزنت عليه …
ولا زلت أذكر عند آخر قدوم له لليبيا ووقتها تم اصدار قرار بمنع بقاء المغاربة داخل البلد لأكثر من شهر، وكان يحتاج البقاء شهر رمضان وشوال، وكم احتاج الامر من عناء وذهاب وقدوم لدوائر شؤون الأجانب للحصول على استثناء وفي تلك اللحظة قال “من ثلاثين سنة نجي لليبيا وهذه اول مرة نحس نفسي اجنبي عليها”.
حزنت عليه …
ونذكرت اتصاله بي وسؤاله عن حال عمي عثمان والذي كان قد توفى قبل شهرين من اتصاله، وتأثره الشديد بالموقف وعدم قدرته على الكلام إلا بالدعاء والعبرة تخنقه.
حزنت على كمية طيبة ونقاء قلب لم تغيره صعوبات وهموم الحياة.
رحمك الله يا شيخنا ونسأل الله أن يجزيك عنا كل خير.
في رحلة لاسطنبول من سنتين سمعت عن هذا الشيخ من طالبه عبد الرؤوف
لم أعرفه يوما
لم أره.. أمثالي لا يحظون كثيرا بهذا الشرف
حكى لي عن ما كتبته في هذه التدوينة وأكثر، أذكر أني تبسمت من الداخل ما هذا الحظ الذي يشمل هذه العائلة، ولكن من جانب آخر أعحبت بشدة بشخصية هذا الشيخ، والآن وأنا أقرأ كلماتك شعرت بحق ماذا كان يعني هذا الشيخ لكم
رحمه الله وعوضه عن أحلامه وآلامه خيرا
عظم الله أجرك يا محمد،الله يرحمه ويتغمده بواسع فضله
غفر الله له، وكتب أجره، وأعلى في الجنان منزلته…
وربط الله على قلوبكم وقلوب كل أحبته
أحزننا ما كتبت يا بوغرارة .. ربي يغفرله ويرحمه ويجمعكم بيه في الجنة.
“احترمه كثيرًا رغم أني لم أدرس عليه الكثير، وفي كل مرة أقرأ فيها سورة البينة أتذكره..
أحترم فيه صبره رغم كل ما لقاه ويلقاه من هذه الدنيا وكل ما واجه من ابتلاءات.
لا أعتقد أن لسانه يتوقف عن قراءة القرآن ما دام مستيقظًا..
بشوش الوجه لديه هالة وقار عظيمة حوله، هادئ حتى عندما يغضب، أعتقد أن ملامح وجهه تترجم كثيرًا من صبره وجَلده.”
…..
أسأل الله له الرحمة والمغفرة…
الله يرحمه ويحسن إليه.
أبكاني ما كتبت، وحزنت عليه، وتذكرت شيخي. رزقه الله بتلاميذ يذكرونه ويدعون له..هذا عمله الباقي. اللهم الفردوس الأعلى لعبدك الفقير إليك، اللهم ارزق أهله الصبر والسلوان وسعة الرزق وصلاح الذرية.
اللهم اغفر له وارحمه…