في سجن بوسليم كان من حصة كل سجين نصف قنينة ماء…كان يُعطى كل شخصين قنينة 1.5 لتر ويتم تقاسمها ..باستخدام قنينة قديمة فارغة.
كان أحد السجينين هو من يقوم بعملية التقسيم …عملية دقيقة ..هئ
ترى جميع من يقوم بها ..ملصق الشيشتين أمام عينيه وهو يحسب فيها بغرام الذهب…يسكب من هذه لتلك…اوبس وضع أكثر من اللازم..يعيد الزائد للقنينة الأولى …وصاحبه يراقبه من طرف خفي.. ويقول في كلمات بعضهم صادق فيها وبعضهم يقولها بحكم التقاليد “عادي ما دورش شي..زي أني زي أنت”
أنا كنت أكره أن أقوم بعملية التقسيم…لأنها اختبار بسيط وتافه لكنها تضعك وحيدا ..وبدون مراقب غير نفسك والمحك شيء بسيط يمكنك أن تتصنع عدم ملاحظتها..والفرق يكون مليترات بيسيطة ..لن يلاحظها صاحبك.
لكن صاحبي كان يصير دائما على أن أقوم أنا بها…رغم إعلاني بالرفض…لكني لست معروفها بقوة المواقف ولا قوة الشخصية التي تجبر الآخرين على إطاعتي…على الأقل لا يحدث هذا في الغالب.
وهو – منصور – كان على العكس مني ..تعرف تلك الشخصية المندفعة لكن ليس بحماقة ..أحيانًا جبانة.
الشخصية التي عرفت “ليبيا شن تبي” ..الأمر الذي لم أعرفه حتى الآن ..رغم أن الكثيرين يتحدثون عنه.
كان يعرف أنه عليك تسكير راسك ..أحيانا في شكل مرح وصوت عالي ..أحيانا على شكل تحمير العيون ..أو الصراخ …ولا بأس ببعض الدفع ..الشتم وسبان الدين أيضا يُطعم الاستراتيجية …
تحدّث كثيرا …وليس لنا هناك إلا التحدث وتصديق قصص بعضنا…
تحدث كثيرا عن صولاته وجولاته في استخراج الاسمنت من مصنع الخمس ..بصحة الوجهة وكول ووكل ..بالعياط عندما يرى أن ذلك أفضل ..وبالكلام الحلو ..والفلوس عندما يكون ذلك الطريق.
أيضا استراتيجياته هذه كانت خير معين له في نجاحه في عمله في استخراج السيارات من ميناء الخمس لأصحابها…نظام “سالطو صدر” ..اندفع والأمور ستحل..من يجدك واثق ومش معدل علي حد سيظن أنك صاحب المكان..ماذا سيتطلب الأمر ..بعض الكذبات..بعض التظاهر..حلف الإيمينات الحانثة ..وماذا فيها ..الكل يعرف أنها كاذبة أصلا.
في السجن كان له سجالاته وعياطاته حول توزيع الأكل …والأكثر حول السجائر…..في البداية كان يقاتل روحيا وكاريزميا من أجلها…لكنه لم يكن من رجال الصف الأول ..مع سراج وخوه ..خريجي السجون.
لكن بعدها بدأ قريبه “العقيد ” يدخل له باكوات دخان كل أسبوع …مما قفز به لكراسي النسور …وأصبح سراج يسمح له بالأكل معهم ..وطبعا يدخنوا مع بعض…سراج كان هو مسؤول عن استلام الأكل من الحراس وتوزيعه علينا…لهذا كان يحظى منهم بقطع الأكل الزائدة …وقطع الخبز الأكبر بغرامات زيادة عن فرادي الخبز الأخرى …الأمر اللي قد يكون محير بعض الشيء…فردة خبزة أكبر بميلي مترات صغيرة …عن الأخرى ..ما الفارق ..مالتي ستحدثه؟؟
كما قلت لك هو يعرف “ليبيا شن تبي”
الجشع ..الرغبة المطلقة في الميلمترات قبل الأطنان .
لكن لنعد لقنينة المياة …
ذات يوم ..قبل أيام من افتراقنا..ونقله لسجل آخر ..
عند الساعة 12 ظهرا تقريبا..كالعادة
تم توزيع اشيش النبع ..
منصور أعطاني القنينة …قسم يا شيخ بالله عليك .
*كنت نصلي بيهم في الغرفة..وسراج اطلق علي اسم الشيخ ارديف..لسراج نظرة ثاقبة*
كنت قد تخليت عن محاولة المقاومة الفاشلة من فترة ..
تناولت الزجاجة بضيق داخلي دفين ..
بعد الحسابات المعقدة المعتادة .أعطيته الشيشة وفيها حصته.
أخذها ثم نظر إليها..
فجأة أصبح صوت منصور خفيض…وخجول
قال لي ” يا شيخ رديف …أنت راجل كويس..تعرف أنت خليتني نتغير ..”
عقدت حواجبي في تساؤل
اكمل” أنت اعطيتني أمل أن في ناس كويسة….كل ما تقسم في المية ..باش تتأكد من أنك ما ظلمتنيش .تعطي فيا الشيشة اللي فيها أكثر..لاحظتها…ربي يبارك فيك ”
كنت أفعل ذلك بآلية ..نقسم…ثم الشيشة اللي فيها أكثر ..بمقياس العين الدقيق أعطيه إياه.
لم أظن أن شخصا سيلاحظ…والآن فكرت أن كون منصور شخص تعود أن يراقب كل ما حوله من أجل اقتناص الفرص…
وتعود أن يراقب تصرفات بدقة فلاحظ سراج وهو يختلس قرامات الخبز عند توزيعة .. ومليلترات الديتون ..ذلك التوتر…مسكت مقبض السيف تلك.
هي نفسها ما جلعته يلاحظ ما كنت أفعله.
كانت عيناه محمرة ..وعيني كذلك.
هل تحدث مليمترات فرقا ؟؟
ذكرتني بحكايات أبي رحمة الله عليه..أحد السجناء يوما أصابتهم وعكة صحية..وصف له الطبيب دواء فوار بطعم البرتقال…كان رفقاء السجن ينتظرون موعد أخذ الدواء ليتقاسموه وكأنهم يشربون عصير البرتقال
السجن هو مضخم وبوتقة للحياة..
ستجدين متناقضات البشر..
البعض يسرق ويضرب الآخرين
والبعض يعطي بلا حساب ويضحي
والشيئين يحدثان في مساحة امتار مربعة ..
وكلاهمها مبررتان
في كثير من الأحيان تصنع ميليمترات فارقا كبيرا.
مشكلة الغالبية هي أنهم غير مستعدين للتضحية بالمليمترات الآنية، رغم أنها قد تعود بنفع كبير في المستقبل.
الكل شعاره : “مليمتر في اليد أفضل من لتر فوق الشجرة.”
هئ