كان آخر يوم في شعبان, وكان العشاء يومها أقل من المعتاد و بلا خبز..و هو طبعا مغرف ناقص من المكرونة المبكبكة و اللي الشباب كان يسميها” عصيدة مبكبكة” كونها معجنة ونية.
البعض كان يطمئن البعض أن السحور سيكون تمر و حليب بلا شك …أو سندوشات طن أو دحي ..فمهما كان هذا رمضان والسحور شيء ضروري حتى في سجن بوسليم …وأن اللفندي فتحي لن يلبث أن يأتي بصندوق الخبزة وطنجرة الشربة..!!
لكن مع الساعة 2:00 ليلا بدأ التململ و”مصباح” أحد أهم الشخصيات التي قابلتها في السجن أطلق الحقيقة الفاجعة للبعض ” بصيموكم من غير سحور…وأنتم أصلا مش متعشيين”…كان دائما جريئا ..وهذا غير مستبعد من تاجر مخدرات بأنواعها وأشكالها فضلا عن البوخا طبعا..وجد نفسه فجأة مسجونا في بوسليم ..في بداية الأمر أذكر أنه كتب تلك العبارة فوق رأسه وذيلها باسمه”الله ومعمر وليبيا وبس”..طمعا منه في نيل الشفاعة بها…لكن مع بداية شهر رمضان للحق الرجل صدح بأشنع السباب في حق القذافي وملته كلها وأعلن انشقاقه التام ….لكن لندع الحديث عن مصباح ومغامراته لوقت آخر ..
كنت أقول أن مصباح و عدّة شباب من الغرف المجاورة دعوا إلى عصيان داخل القاطع “قاطع الثقيلة” للمطالبة بالسحور ..كون هذا الأمر لا مساوة فيه ولا يقبل المزاح …..”صيام من غير سحور..تحتى الصيام فيه شك” على حسب رأي أحدهم .
بعض الدنياصورات دائمة التحذير من عواقب أفعال الشباب بادرت بتسخيف الفكرة وأن ” ما صح وجوهكم ..في بوسليم وتبوا سحور ؟؟..من قال يخشوا يفرغوا فيكم كلكم ويديروا حكاية العصيان حجة ..وهما يدوروا فيها”.
لكن دعني أخبرك عن أحدى أهم سمات شخصية مصباح أنه لا يحترم كبار السن بتاتاً..والصراحة أنه في عديد المرات أوقعنا في حرج شديد مع كثير من كبار السن ..فلا حصانة عند مصباح لأحد من الشتم والتهزيب وعلى الملأ.
لكن الصراحة أغلب الشباب أيد فكرة العصيان …وانطلق النداء …خرجنا جميعا للممر التي يحتوي على ست غرف ..ومغلق بباب حديدي وهو ما يسمى “قاطعاً”…وانطلق الهتاف” الله أكبر ..الله أكبر ..الله أكبر ولله الحمد” الجميع يصرخ بالتكبير بأعلى صوته …تستشعر فورا غرابة الحدث ..الاعتياد على الهدوء والخوف من الصراخ في وجود الحرس …فلا أحد يصرخ هناك غيرهم….ووسط ذلك الظلام “الكهرباء كانت مقطوعة وقتها” ..والجميع يصرخ ….قضمة كبيرة من الحرية امتلأ بيها جوفك …سقط الخوف فاصرخ بأعلى صوتك ….البعض لم يكن يفكر في السحور أصلاً..لكن أن تتاح لك فرصة الصراخ …بعضهم بلغ المائة يوم من الهوان والتعذيب والانكسار ..وجد حرية أخذت بالمغالبة بين يديه فصرخ يشتم القذافي ويمجد الشهداء.
وسط هذا يمر مصباح بين الغرف يشد من عزم الرجال ويتهم الجالسين القابعين بأنهم مش رجاله وكمشة جبناء …ويمر بي في الممر وهو يضحك ” اه شنو يا شيخ رديف …كبر ..معادش فيها”….أخد الشباب يدقون على الأبواب الحديدية بقوة ..فكان ضجيجاً صاخباً..إلى جانب التكبير والتهليل…أرى الدموع في عيون الشباب ” محمد بن خيال ” من درنة والشيخ ” الصديق” من بنغازي ..و”محمد جمجوم” من القلعة …الشيخ علي من زليطن تميز صوته الجهور بين كل الأصوات…الحاج عبدالسلام من الخمس.
أتى الافندي فتحي يجري .-فتحي طبعا الذي كان يسرق الخبز المخصص للسجناء-..ووقف على الباب الحديدي المشبك المقفل ..” خير دعوتكم يا بهايم ..ليل ” ..وفرد عليه الشباب بصراخ ودق على الباب ..فنزل يجري مذعوراً !!
صعد إلينا بعده ” الأفندي الطياري” وهو حسب ما يروي العالمون أحد أشهر شخصيات بوسليم وإليه يرجع اختراع ما يعرف بـ” الهوندا” وهي أداة للتعذيب اشتهرت في التسعينات ..وهو نوع من الفلقة ..لكن والحق يقال الرجل لم يعد ذلك الوحش …الجميع شهد أن خلال أحداث الثورة لم يقم بالتعذيب، بل كان مهمته إحضار مواد التنضيف والملابس للسجناء..مما أكسبه احترام الكثيرين .
سكت الجميع عند حضوره …والحقيقة الرجل جاء فزعاً ..صرخ أكثر من شخص”نبو سحور …دبرولنا…معقولة نقعدوا بلا سحور ..وحتى خبزة العشي خنبتوها”
الرجل فرح وقال هذا بس سحور …نحسابها حاجة أكبر من هكي…على يبدوا كان يعتقد أن محاولة كسر أبواب وهروب جماعي.
الطياري وعد الجميع بمكرونة مبكبكة في أسرع ما يمكن …فقط اهدؤوا.
ومر الوقت سريعا باقي على الفجر ربع ساعة ولم يأت شيئ…البعض أطلق أحكامه الحكيمة ” الطياري ضحك عليكم سكتكم باش تفكا من دوشتكم ومشي ضرب السحور في بيته ورقد” …طبعا على أساس أنه لدينا ما نبتز به الطياري ونفاوض به.
لكن قبل الفجر بعشرة دقائق وصلت الطنجرة تشلبك…و أمرنا أن يعود كل شخص لغرفته ..وفعلا عاد الجميع سريعاً…فُتح الباب الرئيسي ودخل فتيان التشغيل بالطنجرة و وزعت المكرونة على الغرف بالدور …وعلى غير العادة عُبأت السواني .
وفي سباق مع الفجر ..انطلق الجميع يأكل وهم يضحكون …كان باقي على الفجر ثلاثة دقائق فقط ….البعض يسأل ” قداش مزال على الفجر”…ينهره آخر ” كول وسكت توا..مش وقته..تو لما يأذن تسمعه”
وأذن الفجر …البعض توقف قبله ..والبعض ابتلع ما ماكان في فمه …والبعض دار روحه أحول وكمل السونية كون أحكام السجن تختلف وعلى رأهم ” انت محبوووس توا” وهي عبارة يبررون بها العديد من الأشياء.
رغم أن المكرونة كانت سيئة وأنها سبب قوي للإصابة بالقرحة لأن الفلفل المرحي وضع بعد طياب المكرونة…علي حسب آراء خبراء المكرونة معنا…وكانت حفيانة ومعجنة .
لكن الفرحة كانت غامرة ..لأننا انتزعنا المبكبكة من سجاننا انتزاعاً ..وكانت دلالة لنا على أن النظام ينهار والحراس يعون ذلك جيدا فنفذوا طلبنا ..لأن يقينا تجدر في نفوسهم أن المسجونين هاؤلاء سيعيشون أكثر بكثير من القذافي.
إن كان يحق لنا إبداء الرأي ،، وصف أكثر من رائع ، عميق أيضاً
…
الحمدللهىبقت مجرد ذكريات مريرة ويا ليت من متعظ في هذه الدنيا
بارك لله فيك
و رمضان مبارك على جميع المسلمين
وين كنت مخبي ها الحكايات يا زلمة؟
حلوة جدا، ضوحكت الصراحة 😀
اسلوب رائع وعفوى
قصة اكتر من رائعة رغم انك حاكيهلي قبل لكن ارجعت قريتها
أسلوب شيق وسلس فى سرد تفاصيل ليلة التمرد ، استمر فى الكتابة بانتظام فأنت موهوب ولديك ماتقوله …كل عام وأنت بخير ..
سعيد برأيك …ولك جزيل الشكر ..:)
أحاول الاستمرار.
كل سنة وأنت بخير ..
🙁 باهي غير ما ردوش عليكم بعنف و الا حاجة تانيه