استجابة لنداء الجماهير -وعلى المريب أن يسأل الجماهير..هئ-
هذه تدوينة نوع من تدوين الذكريات وإفراغ ما تبقى منها في الدهن لفترة سجني أثناء الثورة أحاول أن اجعلها عدة تدوينات كسلسلة.
وهي أيضا محاولة لإعادة نظر لها وتحليل أكثر منها سردا…الأمر الذي سيحدث رغما عني.
تدوينات مملة وطويلة …. للنفس وللأصدقاء المهتمين.
…………………………………………………………
كنت قد حكيت عن كيف تم اعتقالي في هذه التدوينة ” الطريق إلى السبعة وسبعين“..
الليلة ستاحدث عن أول ليلة قضيتها في معسكر السبعة وسبعين المجاور لباب العزيزة والذي كان مقر الحرس الشعبي ” المتطويعين” أسوء الأصناف في كتائب القذافي.
” وهنا نحن نذهب”:
دخلنا للمعسكر قرابة الساعة الثانية صباحا….الكليبشات ويداي خلف ظهري ..ورأسي مغطى بتيشيرت …عندما دخلنا وسعمت كلامهم في البوابة فقدت الأمل في العودة الليلة لحوشنا.
الأمر أصبح رسميا ..لا أحد يخرج ببساطة ..ربما أخرج غدا ..لكن ليس اليوم ..:D
توقفت بنا السيارة وانزلاني المتطويعان اللذان احضراني…رأيت عبر التيـشرت أشجار زيتون …لسبب ما أتاني هاجس أنهم أحضراني هنا لقتلي …بدأت أقرأ آية الكرسي..
سألني السمين فيهم: ” علاش تقرى في القرآن؟ ..مش هنقتلوك” ضاحكا….قلت في نفسي :” اها ..صدقتك يا سمينة”
لم يقتلاني كما هو واضح هئ….ثم تم اقتيادي لمبنى …وعندما دخلنا تم فك الأصفاد ونزع الغطاء.
موقف محرج الحقيقة…هو ما كيف من المفترض أن يتصرف الإنسان مع سجانيه..هل يقاوم بحركات يائسة …أو يستنجد بما يدعي أنه تعقل والذكاء ويصطنع الطاعة ..؟
لكن عدم فعل شيء كان خياري..الصمت والنظر للامكان.
وأعتقد أنهم هم أيضا يعانون من هذا “في المؤسسات الرسمية الإجراءات الثابتة في العادة تنقذ الجميع من هذه المواقف حيث هناك سلسلة من الأجراءات المعروفة ..لكن هذا المكان لم يكن سجنا”
لهذا يسارعون ويسألون ” شن مداير” …كأنهم يبحثون عن سبب يجعلهم يغضوب منك ..لا أحد يستطيع أن يغضب فجأة ويضربك بدون سبب…الكل يبحث عن سبب حتى ولو تافه…البعض يبحث عن هذا في عينيك..إن نظرت إليه طويلا أو نظرة تحدي يفرح بهذا ” خيرك تشبح…” هذا سؤال لا جواب له لا يثير الغضب .
المهم لم يكسر الجليد أحد..جاءني شخص يحمل كلاشنكوف ..وتم اقتيادي للطابق الأول …ممر ضيق طويل ..على اليمن والشمال أبواب مكاتب..
وجدت مجموعة من رجال ينامون في الممر ..اتضح بعد هذا أنهم مثلي معتقلون.
وصلني ناحية الجانب الاقل زحمة من المرر حيث كان ينام شخصان ..أو يصطنعان هذا …
” القاعدة رقم واحد..لا ترفع رأس ولا تنظر للشخص القادم”
أمرني ” ارقد هني” …ومن قال نبي نرقد أصلا.
نزلت علي الزليز مش عارف حتى كيف المفروض نقعد والا نرقد… بدا ليه خاطر ” باعتبار الدنيا ليل والواحد يرقد توا والصبح يصير خير ” بدا كخاطر سخيف..( الخواطر السخيفة ستلازمني طول فترة السجن ..نظرا للعبثة في كثير من الأحداث هناك)
بدأت أفكر في أهلي …في البداية هو نوع من الحرج منهم …ولوم النفس …ثم محاولة تخيل سيناريو جميل أعود فيه للبيت سريعا ..وتصبح هذا الأمر حكاية مضحكة.
قدامي بالضبط الحمام ..
وبجاني الشخصين اللي هيقعدوا معاي لآخر يوم في السجن ” أبو بكر الرياني” و ” محمد الهويدي” تم اعتقالهما معا.. شخصيات غريبة ..
لكن في ذلك الوقت لم يكونا يفعلان شيء غير اطلاق التوهات والصراخ الصموت……من أسوء نتائج التعذيب التي رأيتها في حياتي.
تم القبض عليهم في منطقة الرياينة …
الحاج ابوبكر في خمسنيات العمر ..والهويدي أربعيني..
تم ضربهما بنية القتل …ربطهما من أقدامهما و جرهما بسيارة على الاسفلت ..أماكن نخصات حربات البنادق منتشرة …أحد أذني ابوبكر كانت مثقوبة والدم متجد هناك..ضلوع مكسورة.
هذا المنظر جعلني اشعر بالرعب ..هذه الأشياء تحدث وقد كنت سابقا أسمع عنها..لكنها الآن أمامي وهذا هو الدليل …
الأسوء هناك أنه كلما كان منظرك سئيا وتم تعذيبك بشدة، كلما جعلك هذا هدفا للمزيد من التعذيب ..حيث يترسخ لدى الحراس والزوار من أفراد الحرس الشعبي أنك مداير عمله ومن الجردان فعلا ..
” لأن جميع الأوغاد الآخرين يكذبون…لا أحد منهم يعترف أنه جرد ..الكل يقول أنه لم يفعل شيئا”..لكن هاؤلاء لابد أنهم جردان حقيقيين ..ربما تم امساكهم في الجبهة…ليتم تعذيبهم هكذا.
كان كل شوية يصعد لنا شخص ..في الغالب سكران..ولأن المكان لم يكن سجنا ..فكان الأمر فوضى أي شخص يصعد ويضرب الجردان.
أحدهم كان بحجم جاموس يمشي على قدمين ..وقف علي رأسي ” أنت شنو مداير ..؟”
يا إلهي الواحد شنو بيقول ” ما درت شي…شدوا عندي لاب توب في مقطع ..عادي ”
-” فون طوب..؟؟؟” هكذا نطق كلمة لابتوب…أتبعها بركله في رجلي …ثم أخرى ..
ثم لاحظ الهويدي المسكين ..تركني وانهال عليه ضربا بدون حتى سؤال ..أخد يضربه بالكلاشن على راسه ووجه..والآخر يتوسل..” شكرا لك صديقي هويدي على انقاذي ليلتها”
مرت الساعات في الدعاء والقرآن ..
مع الصباح بدأ النائمون ينهضون كل في مكانه…
أحضروا لنا عصير وبريوش كفطور …
طلب مني ابوبكر مساعدته في النهوض للحمام …وكان يصرخ عند لمسه من أي مكان…كان يقف على خمس مراحل..
ولم يكن يستطيع امساك أي شيء بيده..وصديقه ليس أحسن منه حالا.
نظرت للمكتب الذي كنت أنام تحته ” مكتب العقيد فلان، غرفة العلميات” ..قلت في نفسي الناتو لن يجد مكان أفضل من هذا لقصفه….الشيء الذي حدث بالفعل بعد حوالي 24 ساعة.. وتم تدمير المبنى بالكامل …لكن وقتها كان قد تم ترحيلنا لسجن ابوسلم.
بحجة الصلاة استطعت التحرك للجهة المقابلة من الممر والاختلاط بالمعتقلين هناك…كانوا قرابة عشرة أشخاص.
– منصور الزنداح من الخمس، فوزي عبد العال من الخمس ، لؤي من طرابلس ، علي من الزنتان ، محمد الفالح من صبراته والآخرين نسيتهم …والكل تقريبا كان مزرق العينين أو رأسه متورمة ….أحدهم مازالت رصاص في قدمه تنزف ببطئ.
الكل بدأ يسألني عن سبب القبض علي …طبعا من باب الحذاقة قلت أن الأمر خطأ ..ومجرد مقطع في اللابتوب أسيء فهمه…” موضوعك ساهل ما تخافش …تو غر يحققوا معاك وتطلع”
الظريف إن مثل هذا الكلام كان يطمن فيا فعلا …والتعلق بالأمل سيستمر طوال ثلاثة شهور.
كل صباح يولد من جديد
عدت لمكاني بعد أن صعد أحد العسكريين …كان يحمل رتبه بعكس الزائرين من المتطوعين …
بدأ يلف علينا بالواحد ..وكان سؤاله الوحيد ” انت من وين؟”
ثم يبدأ في شتم تلك المنطقة …والصراخ عاليا …ثم يقول ” لا حول ولا قوة الا بالله ” التريس تمت في الجبهات
ثم يعود للشتم ..مع صمت الجميع احتراما لشتائمه..وهذا هو الحال ….
منذ دخولك تفقد أي أرضية للوقوف عليها …يعود الجميع كلأغنام ..إلا بعض الشخصيات النادرة ..
الطبيعي أن تفقد أي شيء يميزك عن غيرك …تصبح أصلا تكره أصلا أن يميزك شيء…
تصبح تتمنى أن تكون لا أحد ..شخص غير مرئي بين الجموع ..حتى لا يمت الانتباه لك وسؤالك عن أي شيئ.. لا أحد يريد أن يكون بطلا هنا….لأنك هنا – وبخلاف الحياة الواقية- تدفع دائما ثمن البطولة.
لا مجادلة لا منطق لا حجة لا ردافة لا صياعة لا حداقة ولا تبرويل و لسان مليح ينفع في ذلك الموقف..
تتلقى الشتائم وأنت ساكت…
حتى محاولة لإجابة متذاكية من عجوز مخضرم مثل ابوبكر الذي حاول أن يستخدم فيها تكنيك ” أنا غالط ونستاهل ما يجيني و..”
رد عليها بشتائم أعلى صوة وأعمق في المستوى.
نزل وتركنا ..
بعدها جيئ لنا بالغداء ..وهو مكرونة
وهنا لاحظت أن أحد الشباب المعتقلين شجاع جدا…كان يترك مكانه ويذهب يتحدث مع الحراس …بل ويأخذ منهم السجائر..كان ذكيا..وبعض الحراس كان غير عدائي ..فكان يختارهم بذكاء…كان علي من الزنتان لكن لهجته من طرابلس ..
هذا الشخص اطلق صراحه في نفس اليوم ..سبب إمساكه كان تافها ..وجدوا في سيارته ورقة مكتوب فيها مراكز قيادية كتبها هو وأصحابه واختار لنفسه محافظ مصرف ليبيا المركزي…كان واضح أنه مزاح..لكنه وقع في المكان الخطأ وبما أنه كان من الزنتان فاعتقل..
خرج ذلك اليوم ليلا…قبل أن يخرج وقف علي فجأة وسألني عن رقم هاتف أي شخص من عائلتي حتى يكلمهم بعد خروجي ويطمئنهم علي ..قلت له رقم والدي بفقدان أمل ..ذلك أنه لم يسجله في ورقته..ثم أنه مر علي الجميع وفعل نفس الشيء…قلت ” تو معقوله بيحفظ أرقامنا كلها التي سمعها مرة واحدة”
حسنا الباين أنه كان عبقري ..لأنه فعل…بعد ما خرجت بشهور اخبروني أنه شخص زناني اتصل بيهم بعد اعتقالي بثلاثة أيام واخبرهم بمكاني …
قابلت علي بعد الثورة بسنة …كان لتوه قد عاد من رحلة علاج…قطعت رجله …بعد خروجه صعد للزنتان وشارك في المعارك وأصيب في القلعة ..وقطعت رجله..بعد عوده من العلاج أنهى فصله الأخير في كله الهندسة في جامعة طرابلس وتخرج ..أخبرني أنه ربما يتحصل على بعثه دراسه …كانت معنوياته كمثل ذلك اليوم عالية ولا يكن عن الابتسام والضحك.
بعد الظهر تم استدعائي للتحقيق ..
وجدت ضابطين في غرفة التحقيق …
وجدت على الطاولة لاب توبي ..
لكن من أحضرني البارحة لم يخبرهم لم أحضرني ..
وعرفت هذا من أسئلتهم ..وهم لم يهتموا بي ..كنت مجرد شخص آخر احضره المتطوعين الحمقى ..
أخذوا بياناتي ..وكتب لهم عنواني وغيره ..ثم أعادوني للممر مع الرفقاء..
الأمل بث الأمل في قلبي أكثر …لا أحد يهتم بي هنا…ومن أمسكني لن يعود ثانية ..
حسنا كنت مخطئا ..عاد السمين مع العصر …وجاء يسأل عني ..ثم صعد إلي ” شنو مازلت ما تبيش تعترف..خوك من آمس يتصل ” كان يحتفظ بهاتفي الفقيد ..
عندها دعيت للتحقيق مرة أخرى …وهذه المرة مع صرامة أكثر ودفان وتهزيب …” افتح اللي في اللاب توب ..وينه المقطع” …
اللعنة …فتحت المقطع …ومن أول المقطع والشيخ يكفر القذافي ويدعوا للحرب عليه ..
” خلاص خلاص ..واضح ..ليلتك ليلة …يا…”
مرة أخرى ليس هناك رد يمكن أن يفيد …
عدت للرفاق والأمل قد ضاع …
تتشت الأفكار …والسمين تحدث عن أخي…هل سيذهبون وشدوه هو الثاني…
عندما يكون الوضع محكم الإغلاق …
بعد ساعة كان الضابط ينادي باسمي من الطابق الاسفل بأعلى صوته…
نزلوني الحراس يجروا بيا …المصيبة قادمة..
سألني الضابط” اللاب توب هذا ليك ؟” ..”ايه بتاعي “..
” باهي ..افتحلنا فيلم …عندك فيلم القطعة 13 ” …ماذاااا
” ايه عندي ..” بالك الواحد يكتسب صداقة .
فتحتله الفيلم ..وتم أرجاعي ..
بعد نص ساعة ..الصوت ينادي من جديد ” ابوو غرارااااا”
نزلت نجري مجددا ..
” خيره انطفي ..”
” اه..الشحن ..يبي تركيب الشحن”
.
.
.
” نكمل قريبا “
قام بإعادة تدوين هذه على جمعية الستين الوطنية التأسيسية.
سرد شيق وسخي .. واواقات عصيبة مرت بسلام .. حمدا على سلامتك خوي محمد .. كم هو مؤلم وجرح نازف لم ينذمل .. ويا لها من معاناة لا تعرف شفقة حتى بكبار السن ولا تكثرت لتوهاتهم .. سلامتكم جميعا .. دمت بسلام
أهلا دكتو عابد …
رأيك يسعدني خصوصا وأنت المار بهذه التجربة المؤلمة..
نعم ..كان الأمر تجلي للعبودية القحة ..
الحمد لله علي سلامتك أنت أيضا ..
سلمت ..:)
تجارب مريرة و الله، الحمد لله علي السلامه