طلب مني صديقي عبد الوهاب أشكال ..مساعدته في خلع أحد الأبواب.
الباب كان لغرفة في بيت قديم بسيط مؤجر من قبل عمال أفارقة ..من غانا…
تلك الغرفة كانت لأحدهم وقد تخلف عن دفع الإجار لشهور..ثم اتضح انه قد ترك البيت نهائيا ..
المشكلة أنه ترك الغرفة مغلقة بقفل ..
ولهذا جئنا ومعنا كم قادومة ومطرقة وتلول ..
البيت كان في حي غوط الشعال ..الحي الشعبي المعروف..قرب شارع عشرة
بيت متواضع جدا..وقديم ..الأمر الذي يجعل أن مستأجريه جماعة من العمال الأفارقة معقولا.
فتح لنا الباب جورج..وهو شبه المتحدث الرسمي باسم الجميع..
دخلنا بالعدة والعتاد …وطالعنا بعض الشباب ..جميعهم تقريبا يشتغل في الملعقة “تليس جدران البيوت بالاسمنيت”…
عند وقوفي على باب الغرفة ..اكتشفت أن الأمر لا يحتاج عناءا..الحقيقة أننا ربما نخاف على الباب من التهتك ..باب قديم ..وقفل خارجي بسيط..
تكفل به عبد الوهاب ..بسرعة ..ودخلنا للغرفة.
كان انطباعي :هذه غرفة شخص خرج للعمل في الصباح ..ولكنه لم يعد منذ ذلك الصباح.
نسبت أن اخبرك ..كان ذلك بعد إعلان التحرير وانتهاء الثورة بشهر أو شهرين .
الغرفة عبارة عن بيت مصغر فقير ..
تلفاز ..فيديو سي دي ..دجيتال ..مجموعة من السديهات …افلام واغاني وغيرها..سرير متسخ وحقائب وملابس مغلقة على الجدار ..احذية هنا وهناك..وعدة الشغل الخاصة بالملعقة …سطل وملقعة ومطرقة ..متسخات بالاسمنت الجاف.
خرجنا لساحة البيت ونادينا جورج…سأله صديقي ماذا كان اسم الرجل..لا أذكر اجابته ..ربما كانت مارك ..
سألناه أيه هو ..وكيف اختفى فجأة هكذا ..المفروض يعني انهم أصدقاء ..أصدقاء الغربة على الأقل .
كانت اجابته خليط بين ” موشي عارف”..وبين معلومات ناقصة ……كانت الأخرون قد خرجوا معه بدافع الفضول ..ولكن عندما تكرر اسم مارك أكثر من مرة..انسحبوا واحدا تلو الآخر.
عبد الوهاب دفع الرجل للإجابه” وين مارك ..مات ؟”..أجاب جورج ” ايوا ..مات ”
– وين ؟
– في الزاوية.
بعد تطمينات للرجل أن لا شيء يصيبه ..أخبرنا أن مارك مات في الزاوية مع كتائب القذافي…
“سطى ملعقة ..شنو كان يدير غادي؟؟”
الشغل وقتها كان متوقف…وكان نظام القذافي يدفع مبلغا مغريا للافراد من العمالة الأفريقية العاطلة عن العمل بسبب الثورة..استغلالا لجهلهم بما يحصل …وحاجتهم للمال …. لمن يريد منهم أن يحمل سلاح ويقف في بوابه ..أو ينخرط في الطبيخة ويصبح “مرتزق” محترفا.
لا نعرف ماذا اختار صاحبنا لنفسه…لكن نهايته كانت في الزاوية…مع تحرير الزاوية في شهر رمضان.
عدت لغرفته…قلبت في أوراقه…
وخرجت برأي أنه كان رجل متدين…أو على الأقل يهتم بدينه
كتابي إنجيل ..قديمين..يمكن يكون جابهم معاه من غانا…وصلوات وتعليقات كتبها بخط يديه بالانجليزية على هوامش الانجيل ..ومفكرة صغيرة…..بطاقات لحفلات خيرية في كنيسة الظهرة…
ثم وجدت صورة لزوجته وابنته….
باب احتمالات سبب التحاقه بكتائب القذافي ..مفتوح للكثير..
وأحدها هذه الطفلة البائسة في الصورة…
كأن يكون خرج من بيته في غانا وفارقها.. لأجل كسب المزيد من النقود من أجل شراء ملابس جديدة لها ..حياة كريمة ..تعليم…ربما جامعة …لابد أنه حلم بها طبيبة أو مدرسة ..كل أب يفعل هذا .
لم يقطع الصحراء على ظهر تلك الشاحنة …إلا لأجلها ..ربما كان مخططه كمعظم الأفارقة هنا …الحلم الأروبي على ظهر زورق من زوارة أو الزاوية إلى إيطاليا….يضبط أموره هناك …ثم يستقدم العائلة معه لأروبا ليعيش يسعاده…هذا ما ظننته.
لا أدري بخصوص لحظات الرجل الأخيرة كيف كانت ….لكن لو كانت لديه الفرصة لابد وأنه فكر في ابنته بعمق..وأرسل إليها صلواته واعتذاره..وندمه…كان يمكنه أن يعيش لأجلها …لو لم يأخذ ذلك القرار الغبي.
ربما نال ما يستحق فعلا ..
وتلك الفتاة ..بدت لي في الصورة ذات ثلاث سنوات ..لن تعلم تحديدا ماذا حدث لأبيها..
الأفريقي المطحون لا يحظى بترف أن يرجع لبلده ملفوفا في علم في تابوت فاخر…ولا أن تلتقط صور درامية لطفلته وتهي تمسك بصورته وتبكي بأناقه.
لن يعمل عنها فيلم وثائقي بعد أن تكبر ..وتسافر لليبيا وتبحث عن مصير والدها ..التي تدعي أنها مازالت تذكره منذ طفولتها…لتستريح روحها.!!
ما هذا السخف؟
قسوة الحياة ستتزع منها كل تلك الأفكار…غالبا في سن التاسعة أو قبلها عندما تضطر للعمل في منازل الأغنياء…..ربما لتكون هذه هي حياتها المهنية حتى الشيخوخة.
…………………………..
ملاحطة: الصورة المدرجة ليست للفتاة المذكورة في التدوينة بل هي صورة عشوائية من النت…للأسف لم آخد أي شيء من مقتنيات الغرفة..الآن وعند كتابة التدوينة بحث في النت عن أقرب صورة في ذاكرتي للفتاة.
ويل دن يا صديقي
تدوينة قوية كعادتي بك .. ورغم قلة تدويناتك .. إلا أن قوة هذه التدوينات تغفر لك .. تدوينة حقاً تلمس شغاف الإنسانية .. رائع ..
فقط تمنيت عليك لو وضعت لنا صورة أو أثنين لمحتويات الغرفة .. دفعني الفضول لرؤية ما رأيت حقيقة ..
أستمر كالعادة 🙂
أَدْمَعْتَ عَيناي ,, لمَأساة هّذا الصِنف من البَشر ,, وتلقائياً ينساق العقل للتَفكير في ايامه الأخيــرة ,, وأحلامه الضائعة , وابنته الــيتيمة ,, .
بِئـــساً ,, ( وخلاص ) .
مااروعهامن قصة اتمنى ان نقرالك المزيدفالالام الحياة لن تنتهى ولكن اين الاعتبار
بإذن الله سيكون لك بصمة في عالم القص الروائي.. بالتوفيق
تدوينة مؤثرة لاتخلو المأسى لدى الكثيرين من هذه الفئة دمت متألقا
رائععععععععععععععععععععععع والله
برافوو احمد والله كل مره بنعلق ننسه توا شوفت تدوينه تاني قولت لزم نعلق برافووووووو
أسلوب رائع في السرد. وتمنيت أني كنت مكانك لبحث عن عنوان أسرته وابلغتهم وارحت بالهم وان كان الخبر مؤلم.
[…] في ارضٍ اسمها ليبيا… ماذا حل بصغيرته التي ضحى بها؟ انصحكم بقراءتها هنا، ليس بعيدًا عن واقعٍ مؤلم آخر سارة تقترب اكثر […]
بصراحة شئ يبكي و الله يبكي