آخر يومين في سجن بوسليم

مرحبا..

كتبت هذا المقال بطلب من صديقي جورج الذي تعرفت عليه خلال الأحداث، حيث كان هو السبب -وفريق عمل ميدان “الله يبارك فيهم” – وراء نشر مقالين لي في صحيفة الغارديان أثناء ثورة 17 فبراير- سأضعهما في تدوينة لاحقة-.
بعد خروجي من السجن طلب مني أن اكتب عن تجربتي في مقال من المفترض أن تنشره الغارديان أو نيويورك تايمز، لكن الأمر لم يحدث لسبب ما ..
فرأيت أن لا بأس من نشره هنا في مدونتي البسيطة هذه، رغم المجازفة بدخول حرب قضائية مع الجريدة العريقة P:

ماذا أيضا ؟! اه ستلاحظون أن المقال مقتضب وهذا طبعا بسبب عدد الكلمات المحدد من قبل الجريدة، كما أن محاولة الكتابة كإنجليزي وقور يرتدي قبعة طويلة جعلت من المقال أشبه بماوس  يحاول أن يبدو كـ آي فون 😀  هئ

وبلا إطالة : هنا أنتم تذهبون,,,هئ

**************

“قرابة الساعة الحادية عشر صباح يوم السبت 20 اغسطس قصف حلف النايتو مبنى الإدارة الرئيسي بسجن بوسليم.

“مبنى إدارة سجن أبوسليم وقد قصفه حلف الناتو في يسار الصورة”

      كانا أقوى انفجارين سمعتهما في حياتي، بعدها تفجر الموقف، شاهدت بعيني من خلال شباك الزنزانة الضيق الحراس يفرّون من أبراج الحراسة، فسادت الفوضى، واتخد السجناء قرارهم: سنهرب الآن من السجن، قمنا بتحطيم الأبواب وخرجنا للساحة، كان قاطعنا يحوي قرابة 1200 معتقل، وكان الموقف هناك أكثر حساسية، بعض الحراس هناك يهددون بالأسلحة والبعض الآخر يودعنا ويدعوا لنا بالعودة لأهلنا سالمين، فوق إحدى المنصات كان هناك جندي متمركز بسلاح أغراض عامة “machine gun”، وكان متحفزا ومذعورا، أحد السجناء رماه بحجر فأفلت سلاحه ليسقط، وفر هاربا.

فوق المدخل كان يتمركز الرشاش الآلي

وتلك كانت لحظة دراماتيكية سنمائية، انطلق التكبير و انطلقنا جميعا باتجاه البوابة نصرخ من الفرح، كانت لحظات تاريخية تفجرت فيها عواطف الفرح، ونسينا فيها أي شعور بالخوف، و ركضنا باتجاه البوابة الرئيسية، هناك شاهدنا المبنى المقصوف مدمرا وبعض الجثث مثناترة حوله.
فجأة بدأ الرصاص ينهمر كالمطر علينا، حراس البوابة الرئيسية كانوا مصريين على إتمام عملهم كما يبدو، بدأ الناس يتساقطون وتفجّر الهلع بين المساجين، فعدنا نجري -والرصاص يثناتر من حولنا- إلى زنزاناتنا.

حصيلة محاولة الهروب كانت شهيدا وسبعة جرحى، أحد الجرحى تحدثت معه بنفسي، أقسم بالله إن الرصاصة اخترقت مؤخرة عنقه وخرجت من جانبها الأيمن دون أن تصيب أي شريان أو وريد أو العمود الفقري، كان يمزح ويضحك.

جريح آخر أُخذ للمستشفى وعاد أسوء مما ذهب، تم تعذيبه في المستشفى بالضرب والركل والشتم والتهديد بالقتل.

كنا خائفين وقتها من أن بعض مرتزقة القدافي ستقتحم السجن وتقوم بإخماد هذه الانتفاضة وقتلنا جميعا، مرت ساعات صعبة على الجميع.
في ذلك اليوم شاهدنا التلفاز لأول مرة منذ شهور، فبعد هروب الحراس وترك مبنى الزنزانات استولينا على التلفزيون الخاص بهم.

كان مشهدا مؤثرا، الجميع ملتف حول التلفاز لمعرفة أخبار الثوار وأين وصلوا، شاهدت فيديو للثوار وهم في مدينة الزاوية مدججين بالأسلحة والانتصار يبدو في وجوههم.

سالت دموعي دون أن أدري، الجميع بدأ في البكاء، تعانقنا جميعا ونحن نردد أغاني الثوار التي تذيعها إذاعات الثورة، أغاني نسمعها لأول مرة، بعد أن ظللنا لأشهر نُجبر على الاستماع لأكاذيب يوسف شاكير وأغاني إذاعة تلفزيون القدافي.
عرفنا من الأخبار أن عملية تحرير طرابلس ستبدأ تلك الليلة، كان من ضمن المسجونين معنا ضباط منشقون عن القذافي وقاتلوا بجانب الثوار، كان قرارهم أنه من الأفضل الانتظار في السجن حتى يقتحم الثوار طرابلس ويتم تحريرنا من قِبلهم بدل المخاطرة بمحاولة هروب أخرى نسبة سقوط قتلى فيها ستكون كبيرة، فاستجاب الجميع لهذا الرأي.

لم ينم أحد تلك الليلة، مزيج من الترقب والقلق الشديد والفرحة بالنصر القريب، كانت  أصوات المعارك والانفجارات وإطلاق النار في شوارع طرابلس تصلنا، والأخبار متضاربة في وكالات الأنباء عن سقوط طرابلس وتحرير بعض مناطقها و المعارك الطاحنة التي تجري في كل أحيائها تقريبا، أحد أقربائي “محمد الغرياني” -والذي سجن قبلي وكان رفيقي في السجن- وجدته يبكي بحرارة، السبب كان أنه حرم من المشاركة في معركة تلك الليلة، تلك كانت حسرة في قلوب العديدين.

في صباح اليوم التالي كان البطل هو العقيد “جمعة”-وهو أحد ضباط السجن- في ذلك اليوم أكد الشكوك التي كانت لدينا بأنه منشق عن نظام القدافي وكان يستغل منصبه لمساعدتنا، فمنذ شهر مايو والعقيد جمعة عمل على تحسين أوضاع المعتقلين من حيث توقف التعذيب بقدر المستطاع وتوفير الغذاء والماء والدواء، حتى إنه كان يسهل للكثيرين الاتصال هاتفيا بأهاليهم.
في صباح ذلك اليوم قام العقيد جمعة بتسهيل تهريب عدد كبير من السجناء كنت أنا أحدهم، كل من كان من سكان طرابلس أو يملك أقارب له في طرابلس كان يتصل بهم هاتفيا؛ ليأتوا ويستلموه من أمام البوابة الرئيسية، وفعلا قام العديد من السجناء بالاتصال بأقاربهم في الخارج وبدأ كثير من المعتقلين بالخروج.
اتصلت بوالدي، وبعد نصف ساعة خرجت أنا واصطحبت معي خمسة من المساجين من سكان بنعازي ومصراتة؛ لكي يبقوا في منزلي حتى تهدأ الأمور ويعودوا لأهلهم، خرجنا تحت نظر الحراس الذين كانوا في حالة تخبط وهلع، والبعض كان يطلق النار في الهواء ويطالبنا بالعودة، وبعض الحراس بدأ في البكاء ويطالبنا بأن نسامحه على ما فعل.

لطالما شاهدت مثل هذه اللحظات في الأفلام، حيث الحدث أكبر من أن تستطيع احتواءه بكل ما يحمل من مشاعر، هناك الفرح بالحرية..
وهناك والدتك التي أنت على وشك تقبيل يدها
ووالدك الذي ستعلم فيما بعد أنه ظل لأيام عديدة -بينما الناس تتناول الإفطار في مغرب شهر رمضان- يقود السيارة ويدور حول السجن في حركة بطولية قد يراها البعض ممن لا يفقهون معنى الأبوة الصادقة حماقة.
وهناك ما هو أكبر: لقد تحررت بلادنا، كيف لقلب إنسان أن يستوعب كل هذه المشاعر في لحظتها؟

خرجت من البوابة الرئيسية لأجد أبي في انتظاري مع بعض إخوتي، كانت لحظة مليئة بالعواطف، مرّت عليهم أوقات ظنوا أنهم لن يروني مجددا، خصوصا مع الإشاعات التي كانت تقال عن عمليات الإعدام الجماعية في السجون، وعمليات التعذيب التي يموت تحتها البعض، ناهيك عن سمعة سجن بوسليم السيئة بهذا الخصوص.

انطلقنا جميعا لبيتنا، ونحن في الطريق شاهدت علم الثورة يرفرف فوق أحد البيوت يتحدى القذافي ويعلن بداية عهد جديد وأن ملحمة تاريخية كتبها شعب بدمه فصولها على وشك الانتهاء”

19 أكتوبر، 2011

التعليقات

    السام عليكم ورحمة الله وبركاته الحمد لله على السلامه واعطاك الله سبحانه وتعالى القوة لاكمال المشوار لتصبح بلادنا امنه باذنه تعالى

    مهما حاولت الوصف بالكلمات و إن بلغت بها المجلدات فإنك لن تستطيع إن تصف المشهد كما عشته أنت و غيرك من السجناء في تلك اللحظات التاريخية .

    بورك فيك على ما سطرت يداك ، و حفظك الله و رعاك .

    زميلك بسجن أبوسليم / السجن التابع للأمن الداخلي و خروجنا كان يوم 24-8-2011 .

    تحياتي .

    لااله الا الله … الله اكبر و له الحمد والله كانت ايام صعبة جدا يا محمد …
    لا يمكن ان اوصف لك نباء القبض عليك وسجنك في ابو سليم ….ونباء خروجك من السجن وانت بصحه جيدا من اخوك عبدالرؤف صراحة ….لايمكن الوصف وبعد مكالمتي لك فرحت ولكن ليس كا ليقائي بك واخدك بالاحضان في ذلك المكان …. فالك الشكر ايوها الثأئر الحر .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *