في السخف

لأتحدث عن الشعور بالسخف..

لماذا ؟
لأن الطريقة المتبقية لمقاومة الشعور بالسخف.. هي محاولة الكلام عنه،الإحاطة به وتحجيمه.

لأن كل الحيل المعتادة لم تعد تعمل ..
القراءة.. المشاهدة.. الانسياق.. الضحك.. الإضحاك.. النوم بلا عشاء..إقفال حسابات الفيس وتويتر.. تصوير السحب ..تصنع الاكتئاب..،

كل هذا لن يمنع الشعور بالسخف في الصباح التالي.
بل هو سيزيد السخف ..

وستبحث من الساعة 6 إلى الساعة 9 عن سبب للنهوض من الفراش وأنت تحملق في السقف..
تحاول أن تتذكر أي شيء..أي شي ولا تشعر بالقيح في بلعومك يتصاعد.

الشعور بالسخف..!!

الشعور بالسخف هو ما تشعر به عندما يحاول سياسي جعلك تصدق كلامه.
عندما يسمي بلطجي نفسه شرطي، وتتم ترقيته في حفل عام.
عندما تسمع كلمة مؤسسة مجتمع مدني.
عندما يفخر أحدهم أنه فني إضاءة في قناة ليبية.
عندما تسمع بكلمة معاهدة جينيف.
عندما يتحدثون عن “مكافحة الهجرة الغير شرعية”.
عندما يُعرف شخص عن نفسه لك وهو يحرك يده على بطنه في حركة دائرية بأنه :” محلل سياسي”..
عندما يقال لك في بوابة : ” وين الرخصة القياة.. وأوراق المركبة الآلية؟”.
عندما ترى إعلان في الطريق عن ماستر التنمية البشرية بـ900 دينار والمدرب بجانبه يبتسم.
عندما تقرأ كل يوم خبرا عن تطورات قضية أحمد عز وزينة.
عندما تأتي طفلة تجري لأبيها برسمة المدرسة.. فيقاطعها قبل أن تصل : “امشي يا مصيبة جيبي طاسة مية”..
و عندما تكشف لشخص عن روحك.. فيقول لك هلّا ابتعدت قليلا حتى أرى الشخص الذي خلفك !
كل هذا  يقرر أن يستقر في سقف الغرفة عندما تفتح عينيك صباحًا.
وما فعلته كل ليلة سابقة هو ما يزيد الأمر سوءً

*******

حقًا إنني أعيش في زمن أسود..

الكلمة الطيبة لاتجد من يسمعها..

الجبهة الصافية تفضح الخيانة..

والذي مازال يضحك..

لم يسمع بعد بالنبأ الرهيب..

أي زمن هذا ؟

– برتولت بريخت

***********

الشعور بالسخف تجاه كل شيء ..
كسخف أن ترى ملصق لوزارة الداخلية على سيارة بلا طارقات..

تشعر بالسخف من كل شيء ..
لأنه مهما كان ضخمًا جميلًا هو يرتكز على شي صغيرهش خبيث.

وأنت ترى كل هؤلاء المتزاحمين في السريع كل صباح …
كيف يجدون كل هذه الهمة للدبيب في الأرض ..

وتتساءل : كيف وجد هذا الطاقة الروحية لربطة عنقه !..أعني كل تلك اللفات والعقدات.
وذلك الذي لمّع سيارته أول شيء صباحًا ..
تلك التي رسمت على وجهها ديكور جبس من المكياج ..
هذا مع تسريحة شعره.. تبدو معقدة فعلًا.

أيضًا تلك الأصوات القادمة من الراديو والبرامج الصباحية..تلك التي تتلو الحِكم الصباحية ..اليوم سمعتها تقول : ” لا تقل لا أاستطيع .. بل لا أريد .. لأنك يا عزيزي المستمع تستطيع تحقيق أي شيء تريده”..ومع آخر كلمه يختفي صوتها ليأتي لحن لزج آخر..

تقول لنفسك أن كل هؤلاء لابد أنهم حققوا أشياءً عظيمة في حياتهم حتى يكونوا هكذا..
إنجازًا خارقًا يقاومون به وحش السخف عند كل ليلة..وعند كل صباح.

لكنهم فقط مثل الملايين الآخرين يملكون شيئًا ضروريًا للحياة، هو : وهم أنك مهم .. وأنك لك بصمة .

الكل يملك ذلك الشيئ .. يشبه بالونة هيليوم مربوطة في مؤخرة عنقه .. وتجعله يقف .. منكوس الرأس ربما…
البعض بالونته حدث قام به من سنوات .. أنه تخرج من الجامعة مثلا.. ربما الأول على الدفعة ..
آخر بسبب نجاحٍ في عمله ..وراتبه.
آخر بسبب أنه ” يطرح في لبسه” مليح … وأكبر مصيبة يمكنه أن يتخيلها أن يٌرى بشعر مشفشف في الشارع ..

وليس أقل بؤسًا شخص فخره هو عدد الكتب التي قرأها… الشعر الذي يحفظه… اللغة الإنجيلزية التي يجيدها… نعم هذا يمنعه من الشعور بالسخف..
هو يعرف أسماء الكتّاب دور النشر وكم ترجمة لذلك الكتاب…يشاهد السنما الأروبية لأن الأمريكية سطحية ولا تملك معنى..يتحدث دائمًا عن روايته التي لم تنتهِ بعد..
أصدقاؤه كرهوا كلامه المعتاد.. وتلك الملاحظة التي ظن أنها ذكية عن طبيعة الليبيين .. أو نهضة أوروبا… ويرددها في كل فرصة .. هو يتحاشى ذكرها مرتين لنفس الشخص .. لكنه يفقد السيطرة على نفسه عندما يجد حوار أمامه .. ويعيدها مجددًا… خاويًا من داخله إلاّ من جدول من العناوين والأسماء.

***************

أعرجُ يمرُّ مادّاً ذراعَه إلى طِفْل
فهلْ سأقرأ بعدَ ذلك أندريه بريتون؟

آخرُ يرتعشُ من البَرد يَسعلُ, يبصُقُ دَماً
فهلْ يُجدي التَّلميحُ إلى الأنا العَميق؟

آخرُ يبحثُ في الوَحلِ عن عِظام وقُشور
فكيفَ نكتبُ بعد ذَلك عن اللاّنهَاية؟

بنَّاءٌ يَسقطُ من أعلى سَطحٍ, ويموتُ دونَ تناولِ الغداء
هل سنبتكرُ بعد ذلك الاستعارة والمجاز؟

أحدُهم يَمضى مُنتحِباً في جناز
كيفَ يمكنُ الالتحاقُ بعدئذٍ بالأكاديمية؟

أحدُهم ينظِّفُ بندقيةً في مطْبخهِ
ما قيمةُ الحديثِ عن الغَيب؟

– قيصر باييخو

*****************

آخر هو ” إعلامي” يتوارى من القوم من سوء اسم مهنته..

الإعلام الذي أصبح أكبر تجمع للعاطلين عن العمل..

كمثل وظيفة سيارة الأجرة قديمًا التي لا تتطلب شيء تقريبًا..
تذهب المساء لوكالة السيارات .. ثم .. تن ترا… في الصباح التالي أنت تشتغل..

يتمنى ” الإعلامي” فعلا لو تقدم الجهة التي يعمل بها شيئا…يتمنى لو تقدما شيئا ذو فائدة أو شيئا ممتعا أو أي شيء حتى لو كان مسلسلا تركيا.
يتمنى أن يشكرها الناس .. حتى يشعر ببعض الفائدة من اللا شيء الذي يقوم به.

لكن حتى هذا لا يتحصل عليه.. يشعر بالهراء الذي يسبح فيه.

لكن لا يستطيع أن يخرج أو يستقيل..
ولو كان مهنيا حقا فبؤسه أكبر..أين تلك المؤسسة المحترمة؟؟
أين سيذهب .. كيف سيعيش.. من سيقبل به ..

وكالات التاكسيات الخاصة لم تعد موجودة تقريبًا ..

**********************

يمكنك تخيل مشهد تنصيب ملك.. بكل الحاشية والفرق الموسيقية .. والشنابات الذين يهرولون في الخلفية… وكل تلك الاتصالات والترتيبات والأكل والأضواء..والطرق المغلقة والمهابة التي على الوجوه والانحناءات التي في الظهور … ثم تخيل أن الملك في الحقيقة هو أغبى شخص من بين الحضور وأقلهم مهارة ولا يستطيع ربط حزام سرواله … لكن الجميع يمتحن من معين حكمته ويقهقه لما يفترض أنها نكته … حسنًا هذه صورة من سخف العالم..

 **********************

ين الحين والآخر -الناس – تحدث لهم صدمات … موت شخص قريب … فقدان العمل … أن يتم ضربه أمام البنات في الجامعة

فيشعر الإنسان وقتها بالسخف..  لأنه ولأول مرة في حياته ربما… والأخيرة أيضا يقوم بتلك العملية الخطيرة … تقييم الذات .

لا أعني بالطبع عملية تقييم الذات المخادعة التي نقوم بها جميعنا عندما نحاول أن نكتب سي في، أو نتحدث عن أنفسنا أمام الآخرين أو داخل أنفسنا… تلك خدعة رخيصة لأننا حينها نتحدث ” بما نحب أن نكونه” وليس ” بما نحن عليه فعلا”… أوهام كثيرة وقتها تحشوا رؤوسنا … نمدد إنجازات سابقة هي بدورها موضع سخف.. لكننا نعتبرها إنجازات ونجعل تلك “الإنجازات” هي هويتنا…
مثلا:  أنا عندي “متتبعين” هلبا في النت إذن أنا شخص ناجح.. وكل ما أقوم به هو انعكاس لشخصيتي “الناجحة”..حسنا يا عزيزي.. أنت كيس من الهراء يحب الناس مشاهدته يتدحرج..

إن صدمات الحياة تلك تجعل كل تلك “الإنجازات” في مهب الريح.. وتتهاوى الديكورات الزائفة….أنها تجعلك وجهًا لوجه عاريا أمام نفسك… لأنك عند الصدمات ترجع لرصيدك الحقيقي.. إلى تلك الأرض الصلبة التي تريد أن تقف عليها.. لتنهض من جديد..
فتكتشف أنها برميل خشب زلق وسط بحر.

إن عملية إعطاء كل شيء في حياتنا قدره الحقيقي.. هي عملية خطيرة.. لربما انتحار البعض كان نتيجةً لها..

أكبر مخاوفي هي أن يكون لدي “القدرة على إعطاء نفسي قدرها الحقيقي، دون المقدرة على جعلها أفضل”

*******

وفي أسوأ حالاته.. السخف هو عقاب للنفس جراء إيمانها بقضية تتحول لسلعة للمتاجرين والحثالة والجبناء..

أن يتم إخراج الإكثرات منك .. بعد أن قتلته في داخلك لسنوات ..

تأتي قضية فيتحرك فيك شيئا… تؤمن بشيء أخيرًا..

أنت الذي لا تتكلم إلا بالتهكم.. والبرود هو أسلوبك في الحياة..

وربما تتغنى أمام قروبك أنك لا تهتم إلا لنفسك … وستعيش لأجل نفسك.

لكن تأتي تلك القضية الرائعة فتجد نفسك تصرخ .. وتتحمس.. وتضع حياتك فداءً للآخرين.

ويعقب هذا شعورٌ طاغٍ بالفخر ..

لأنك في الحقيقة آمنت بنفسك … نعم أنا جيد .. أستطيع أن أتغير .. أنا وقفت مع الحق..

ثم يسرق كل هذا منك ..

ويركب الحثالة على ظهرك .. وهم يصفقون لك .. ويمجدون الشهداء

ويتكاثر القيح في قلبك … تذكر أسماء أولئك الطاهرين الشهداء .. تعرف منهم أشخاصًا.. كنت تلتمس النقاء فيهم.

تتصارع فيك الأشياء .. ذلك النقاء … وهذا القبح.

ذاك السمو .. وهذا الانحطاط ..

أولئك الذين ارتفعوا للسماء… والحثالة الذين ملغوا في تركتهم.

لكن هناك سبب أعمق للشعور بسخفك ..هو أنك تعلم أنك لم تقدم كل ما يمكنك ..,انك لست بأي شيئ جيد.

تحاول أن تعود لبرودك وتلقي العالم خلفك .. لكن هذا عهد قد مضى.

تشاهد أولئك الذين يدعون أنهم باعوا القضية .. وبياخدوها بجوها …ويتحدثون عن ” الهجة ” والعبور لما وراء البحار

وأن لا شيء يهمني في بلادكم هذه …ولا يفوت فرصة لإظهار استخفافه بكل من يتحدث عن الوطن ..

كل ليلة يخرجون بهاش تاق ساخر .. يضحكون بمبالغة…

وعندما لا تعد اللعبة تجدي يكسرون عمقا آخر ..

يشتمون يفتعلون المشاجرات … يتنافسون في إظهار السطحية … لأني إن كنت سأشعر بالسخف غدا صباحا على أي حال … فلأشعر به من أجل شيء ممتع…

لكن لكل منهم كانت لحظات يستيقظ فيها ذلك الوغد الذي يكثرت فعلا … تشعر بالحسرة في كلماته…

وتعرف أنه سيشعر بسخف هائل في الصباح التالي…لأنه وقع في الفخ مرة أخرى ..واكثرت

لهذا يعود أشد عداوة …ويشتم الجميع .

لأن من مراحل السخف هو كره النفس والآخرين.

****************

كما نبحث عن الإلهاء في الترفيه … فإننا نبحث عن العزاء في الأشخاص ..

تبحث عن ذلك الشخص THE ONE ..

لأنه يجعل حياة أكثر إحتمالا ..

أو ربما سيجعلك أقل سخفا أو شخصا أفضل ..

لأنه يجعلك تؤمن بأهمية الأشياء التي قررت مسبقا أنها  سخيفة ..

ستعود بحماس للاهتمام بالتفاصيل .. بالأماكن .. ربما حتى تهتم بصحتك .. ولباسك ..

ربما تهتم بدراستك … لماذا .. لأن هناك من يهتم.

لأنه مهما قالوا لك “افعلها من أجل نفسك” .. لكنك لا تفعل لأنك لا ترى الأمر يستحق.. وأخير جاء من جعل الأمر يستحق…إليس كذلك؟!

لكن حتى هذا قنبلة سخف كارثية..

لأن برحيله .. تفقد مئات الأشياء قيمتها، تلك الأشياء التي قلتها والتي اهتممت بها لأجله ..

أو تظن أن هذا ما حدث ..

أنه يذهب ليتركك شخصًا أسوأ .. لأنك من قبل لم تكن تكثرت لكل تلك الأشياء … لكن الآن أصبحت تكرهها .

***********

كسخف أن أعود الآن لأصحح الأخطاء الإملائية في هذا الهراء…

أعلم أني غدا صباحا ساشعر بسخف بحجم هذا الكلام…

ولن ينجو من السخف عندي في الصباح :

إلاّ جائعٌ .. ورجل خرج ليطعم هذا الجائع..

ومظلوم .. ورجل خرج ليرد لهذا المظلوم حقه.

11 مارس، 2015

التعليقات

    تذكرني هذه التدوينة مباشرة بإحدى الكلمات التشيكية المهمة التي وصفها لنا كونديرا في إحدى رواياته, “ليتوست” التي تعني الحالة المعذبة المتولدة من مشهد يؤسنا الخاص الذي نكتشفه فجأة” ربما كلمة السخف هنا ترتبط ببعض الطرافة, ببعض السخرية من كون أن الأمور بإمكان إحتمالها رغم كل شيء , و نسييانها مؤقتا غالب الوقت, ما فعلته هنا أنك قمت بإبراز هذه الحالة و تسليط الضوء عليها و رميها امامنا..هكذا هو الأمر..لا يمكننا الهروب منه دوما و هو حقيقي و قد كُتب عنه في مدونة حتى.

    فى عز ما انا بضحك وانا بتفرج التليفزيون وعمالة ادور على حاجات تانية تضحكنى ..بطلت ضحك وحسيت بحالة #سخف ضخمة
    قفلت التلفزيون وحاولت انام معرفتش ،كتب فى مستطيل جوجل (سخف) ضغط على التدوينة دى وقرتيها ، إحساسي ب (السخف)
    ما راحش بس حسيت انه التدوينة دى كأنها مكتوب لى ودى فكرة فى قمة السخف طبعا 🙂
    بس حست انا مبسوطة انى قريتها
    وحست انى مش لوحدى
    لانه فيه غيرى اهو حاسين بالسخف
    “اهلا بكم فى النادى ” #شعار _مجانى_سخيييييف :-

    جميل أسلوبك في وصف هذا الشعور الذي اجتاحنا جميعا, من منا لم يشعر بهذه الحالة ؟! خاصة في بلادنا وفي هذا الظرف الذي جعل أنفسنا تتآكل بالسخف ..

اترك رداً على ala إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *